يندرج هذا النموذج البيداغوجي "التدريس بالملكات" ، ضمن منظور paradigme "تجديد التراث" ،بل هو تطبيق له في المجال التربوي التعليمي . هذا المنظور الذي بلوره أستاذنا الكبير محمد عابد الجابري في اجتهاداته المتميزة للجواب عن الأسئلة المحورية والمصيرية التالية ":
كيف نستعيد مجدنا؟ ؛ كيف نحيي تراثنا ؟؛ كيف نعيش عصرنا؟؛ كيف نتعامل مع تراثنا؟ ؛ كيف نعيد بناء شخصيتنا ؟ ؛ كيف نحقق ثورتنا؟.
يدرك الجابري أن تراثنا تراث حي، لأنه ظل ساريا بيننا متغلغلا في نفوسنا، وأنه قابل للتطور، إنه "إنساني في قيمه ومناهجه". في حين بقيت ثقافتنا السائدة حالياً متخلفة ، "من مخلَّفات عصور الانحطاط، خاصة في طريقة التفكير التي تنتهجها". ولهذا دعا إلى ضرورة تخليصها من شوائبها، و تبني طريقة موضوعية في قراءة التراث. إنها دعوة إلى إعادة قراءة التراث وإعادة النظر بترتيب العلاقة الملتبسة بين الماضي والحاضر، أو الحداثة والتراث، آو الفهم التقليدي للتراث والفهم العلمي. والجابري في قراءته العلمية ينحاز للحداثة ويجعلها منطلقه ومنتهاه، ولا تتحقق تلك الحداثة إلا بالارتكاز على التراث ، ولذلك فأول مهام المفكر هي ضرورة تحريرنا من الفهم التراثي للتراث ، الذي تحكم طويلا بالعقل العربي، وتخليص هذا التراث من طابعه العام والمطلق والمقدس، ووضعه في إطاره الحقيقي؛ أي إطار النسبية والتاريخية، ولا يتحقق ذلك إلا بتأسيس الفهم الحداثي و الديمقراطي والعقلاني للتراث .
ويعتقد الجابري بأن لهذه العودة دور وظيفي مهم وحاسم ، يتمثل في الارتكاز على التراث المجيد لنقد الحاضر البائس وتأسيس المستقبل. إنها مهمة دفاعية للحفاظ على الهوية والأصالة ضد التبعية والاستلاب. لقد كان التراث دائما حصنا منيعا للدفاع عن الاستقلال و للحفاظ على الذات وخصوصيتها الثقافية وقدرتها على التحرر والإبداع.
على أن قراءة الجابري هي في نفس الآن دعوة إلى القطيعة ، لكنها ليست قطيعة مع التراث برمته، وإنما إلى قطيعة مع نماذج معينة من التراث ساد في عصر الانحطاط، وقطيعة مع القراءات و المناهج غير الموضوعية ، "إن القطيعة التي ندعو إليها ليست القطيعة مع التراث بل القطيعة مع نوع من العلاقة مع التراث، القطيعة التي تحولنا من "كائنات تراثية" إلى كائنات لها تراث. أي إلى شخصيات يشكل التراث أحد مقوماتها، إنها دعوة إلى تجديد التراث، لا إلى إلغائه."
إن تجديد التراث ينبغي أن يتم وفق رؤيةٍ معاصرة، فننتقي منه النماذج الإيجابية التي تساعدنا على بناء حاضرنا واستشراف مستقبلنا، ونترك نماذجه السلبية أو نعدلها ونغنيها. فتجديد التراث يعني اختيار النماذج النافعة من تراثنا اختياراً قائماً على الفهم والتمييز والنقد والمفاضلة بين العناصر التراثية، وجعل الصالح منها منطلقاً إلى الإبداع والابتكار .
لقد وجد هذا المنظورالجابري( و الجابرية عموما) المستنير والتقدمي و الحداثي للتراث ، طريقه إلى إعادة تشكيل الرؤى و الباراديكمات ، التي يستلهمها العديد من الباحثين منهم على سبيل المثال محمود السيد ، الذي يستخلص وجود نماذج جيدة في تراثنا يمكن الإفادة منها وتوظيفها، ومن هذه النماذج:
- النموذج العلمي التجريبي: الذي طوره عدد من علمائنا القدامى مثل جابر بن حيان والبيروني وابن الهيثم والخوارزمي وابن النفيس وغيرهم كثير.
- النموذج الوظيفي أو النفعي للمعرفة، انطلاقا من الدعاء النبوي " اللهم علّمني ما ينفعني، وانفعني بما علمتني، وزدني علماً، وكلُّ علمٍ وبال على صاحبه إلا من عمل به."
- النموذج التربوي، الذي يجعل التعليم مدى الحياة حقّا للإنسان وواجبا عليه وعلى الدولة، ويجعل الحرية الفكرية أساسا لتنمية الشخصية الإنسانية وتنمية المعرفة ذاتها
.كما نجد في تراثنا:
- النموذج اللغوي...
- النموذج الاجتماعي...
- النموذج الإنساني ...
و نستخلص نحن بدورنا وعلى هدي من الجابرية ، نموذجا آخر من تراثنا نجدده ونوظفه للمساهمة في الإصلاح البيداغوجي المنشود في بلادنا وهو النموذج التعليمي ، "التدريس بالملكات".