4 ـــ تأهيل/ تبادل تربوي/ تعاون دولي:
وهذا التوجه العلمي العملي، هو ما تسلكه اليوم سائر المنظومات التربوية باختلافات وتنويعات غير جوهرية على ىالإطلاق، بل إنها تتبادله ويفيده بعضها من بعض، كما يحصل من تعامل في ميادين أخرى اجتماعية واقتصادية وسياسية؛ وبهذا الخصوص فإن الأكاديمية الفرنسية قد تبنت في الفترة الأخيرة مبدأ "التعلم بالتجربة" (الخبرة) بعد التعرف عليه (في شيكاغو إلينوى) باعتباره يساعد الأطفال على المشاركة في اكتشاف الأشياء والظواهر الطبيعية؛ كما أنه يجعل المعلم بدلا من الإجابة المباشرة على أسئلة الطلاب حول بيئاتهم، يطرح أمامهم تحدياً لصياغة الفروض وأداء التجارب وتبادل النتائج، ويكمن المبدأ التربوي هنا في أن التجربة حتى في حالة فشلها، فإن الانخراط فيها يمثل خبرة مفيدة علاوة على أنها ممتعة للمتعلمين؛ وذلك كله بدلا من الأسلوب التقليدي المتمثل في إعطاء المعلم للجواب (المعرفة) (18).
والواقع أن مثل هذه الظاهرة المرتبطة بالتجديد والتجدد التربوي، بناء على التفاعل مع تجارب الغير(فرنسا/ أمريكا مثلا)، بقدر ما هي طبيعية في التفاعل والتلاقح الحضاري بين الأمم والشعوب، وبخاصة في مجال التقدم العلمي، فهي ليست أقل من ذلك في المجال التربوي، لدرجة أن أزهى فترات التجديد في هذا المجال، عرفت منذ أكثر من قرن ونصف على الأقل، تفاعلا قوياً وتبادلا مركزاً ما بين البلدان الأروبية من أقصاها إلى أقصاها، فيما بينها من جهة، والقارة الأمريكية من جهة أخرى؛ وهو ما يفتح باباُ على مصراعيه بالنسبة للدول السائرة في طريق النمو والمتعثرة تربوياً، في التفاعل مع الاتجاهات التربوية الجديدة والمتجددة، لا عن طريق استعارتها وتكييفها للتلاؤم مع الواقع المحلي فحسب، ولكن أيضاً لإغنائها بالفرضيات والتجارب العملية الميدانية، للمساهمة عن هذا الطريق في تأسيس الحوار الحضاري والعلمي عملياً، ولتجاوز مجرد موقف المتلقي المستهلك إلى مقام العضو الحضاري، المتفاعل والفاعل في حراك التقدم الإنساني.
وبهذا الخصوص، يجب التأكيد على أن عالم اليوم يتيح كل الفرص للتبادل والتشارك على جميع المستويات، وليس ثم معيار يستند إليه لانتقاء العقول والذوات والأمم والشعوب، لنيل تزكية القابلية للمساهمة في التقدم الحضاري، عدا الإنجاز ذاته؛ وفي المجال التربوي بالخصوص، يمكن أن نكرر تلك المقولة التقليدية المعبرة عن أن السلبيات المجتمعية التربوية في البلدان السائرة في طريق النمو، أو في تلك المتخلفة عن ركب التقدم العالمي، تقدم فرصاً للاكتشاف والتجريب التربوي، أكثر مما تقدم مثل ذلك المجتمعات المتقدمة، وهذا يذكر ببدايات التجديد التربوي، إذ كانت فرص التأخر التربوي المجتمعي ذاك، خير مساعد في اكتشاف النظريات والطرق التربوية الحديثة.
خاتمة: وظيفة مدرسية للتفوق
إذا كان من أهم ما ترمي إليه بيداغوجيا التأهيل، يتمثل في شخصية متفتحة ومنفتحة على محيطها وعصرها، بعيدة عن التركز على الذات وما يرتبط به من الانغلاق والتقوقع ويترتب عنه من تجمد فكري، فإنها في توجهها العلمي العملي والتكنولوجي، تجعل هذا الهدف متحققاً على أوسع نطاق، باعتبار ما تتيحه المنجزات العلمية اليوم من فرص الحوار الحقيقي والتكامل والتعاون، في مختلف المجالات بما فيها المجالات الإنسانية والفنية ، عن طريق الوسائط التواصلية المعرفية، التي تجعل من السهل المتيسر الاطلاع على آخر ما وصلت إليه النتائج في أي مجال، بل والمشاركة فيها بالنقاش والمساهمة الفعلية في الإنجازات المتحققة في أي ميدان (19)؛ وهذا الواقع إذ يضرب يالأساس مفهوم وتصور سلطة المعرفة المُعلمية المعهودة، فإنه يفتح كل الآفاق أمام تعلم تأهيلي غير محدود، بوسائط من بينها (ولا نقول من آخرها) المؤسسة المدرسية المتطورة نفسها.
وإن هذه الذهنية المؤهلة والمتأهلة لهي الممثلة لثقافة وقيم العلم، وهي ضمانة في الآن نفسه لبناء مجتمع علمي إنساني محلياً وعالمياً؛ ذلك أن الانفتاح والحوار يتزايد في العالم مع زيادة ازدهار التبادل العلمي، فالأساليب التجريبية العلمية واللغات الرمزية المعقدة، تتيح على نحو أفضل كسر الحواجز اللغوبة العادية، وبذلك فإن العلم ينجز نمطاً من المعرفة أكثر شمولا، إذ بإمكان أي كان، قراءة وتقييم ومناقشة أي جديد، من قبل أفراد ومجموعات مختلفي اللغات والثقافات، متباعدي المسافات. (20)
إن مواصفات مجال تربوي تأهيلي على النحو السابق من مواصفات مكوناته (بروفيل مدرسة)، وبخاصة من ذلك (بروفيل معلم/ متعلم)، تحيل إلى تصور وسط تفاعل مدرسي دينامي، وهو الذي يمْثل إيجابياً بمثابة "عقل " أو تركيب عقلي فاعل وإضافي في العملية التأهيلية، على نحو ما يمْثل به "الوسط الاجتماعي" في تفاعل التنشئة بصفة عامة(21)؛ وهي بالذات مواصفات مجال التفتح والانفتاح، وسلاسة الأداء الإرادي، مما تنتفي معه مشاعر القهر والإكراه على أي نحو كان، وبخاصة ذلك المألوف في ثقافة الرسوب المدرسي، والمتعلقة بالصورة النموذجية (المفترضة) لمنظومة (إيجابية) متشددة، بمؤشر ما تفرزه من فشل دراسي، باعتباره دليلاً على جودة أداء المنظومة(22) وكأنها مستقلة بذاتها لذاتها؛ عكس ذلك تماماً مجال مدرسي تأهيلي دينامي، فهو يسجل قطيعة مع ثقافة الفشل الدراسي بتعدد منافذه ونوعية مخرجاته، ويؤسس لدينامية ذهنية مشبعة بثقافة التفوق عبر جودة الأداء (الإرادي والاختباري) والتقدم، ولا شئ غير التفوق والتقدم.
في نهاية الأمر قد لا يكون ثم تناقض بين الاقتداء والتأهيل، بيد أن التفاوت بينهما لا يخفى أو ينكر، ويبقى الانطلاق والتوجه هو الأساس، فعندما يكون الهدف هو التأهيل، فمجال العمل هو النمو والتنمية للشخصية ككل، بأفق تفتح وانفتاح مستقبلي بلا حدود، على كافة المستويات وبالنسبة لكافة العناصر المتفاعلة في المجال المدرسي، لذلك يمكن في عملنا أن نستحضر الاقتداء ونعمل عنه مباعدين مبتعدين، ونقول بالتأهيل ونعمل باتجاهه مقاربين مقتربين مأخوذ من موقع وزارة الثقافة المغربية